السبت، 15 يونيو 2019

المسرحية التونسية "قمرة 14" .. محاورة بين الماضي والحاضر من أجل المستقبل






يلعب نص "قمرة 14" التونسي والذي عُرض في القاهرة على خشبة مسرح السلام ضمن عروض المهرجان العربي للمسرح في دورته الحادية عشر، على تيمة استحضار الشخصيات التاريخية التي أثرت في الوطن والدخول معها في جدال حول السبيل إلى الخروج من المأزق السياسي الراهن، حيث شخصية الباهي التي تجد نفسها محتجزة داخل مكتبة كبيرة، فهو يحب الكتب والقراءة لكنه لا يرغب في أن يبيت ليلته داخل المكتبة، ويحاول أن يستجدي الزاهي أمين هذه المكتبة حتى يسمح له بالخروج، لكن الزاهي يمنعه بحجة الاضطرابات التي يشهدها الشارع وأن عليه أن يبقى بين الكتب التي يحبها، لكن الباهي يستمر في استجدائه فهو يخاف من المبيت وحده وسط كل هذا الكم من الكتب.


أثناء الاستجداء المستمر يبدأ الباهي في مشاهدة أطياف لامرأة ترتدي ملابس خضراء وتدور في حركة صوفية وكأنها تمثل استهلالاً لظهور تلك الشخصيات التاريخية التي تتجسد لهذا المواطن التونسي المعاصر، والتي على الرغم من انتمائها إلى أزمان مختلفة، إلا انها جميعاً تشترك في كونها رموزاً للمقاومة والتمرد على القوالب الاجتماعية الجامدة، حيث واجهوا جميعاً الطغيان الممثل في الساسة أو الاستعمار.


تظهر في البداية شخصية عائشة المنوبية التي عاشت في العقد الأخير من القرن الثاني عشر والنصف الأول من القرن الثالث عشر، وكانت بنتاً من بنات الشعب نذرت نفسها للعلم والمطالبة بالحرية، ما جعلها تتعرض للكثير من الافتراءات والادعاءات في زمن لم يكن للمرأة فيه أي حق، ويبدأ الباهي في مواجهتها بما تعرضت إليه من شائعات لترد عليه وتؤكد أنها لم تهدف إلا إلى الإصلاح الديني وحرية الوطن، وانها لم تجد سبيلاً إلى ذلك سوى الانغماس في الصوفية، ما جعلها تشتهر بين العامة لتستحوذ على قلوبهم ومن ثم يخلدها التاريخ.


يظهر بعد ذلك للباهي شخصية منصور الهوش، وهو من فرسان تونس النبلاء الذين حاربوا الاستعمار الفرنسي حيث هاجر إلى ليبيا كي ينظم عمليات فدائية تقاوم الاحتلال، ويؤكد الهوش أنه لم يجد سوى السلاح سبيلاً للتغيير والمقاومة وتحقيق الحرية وإصلاح الوطن، لكنه أنهى حياته منفياً في الصحراء.


يحتدم الجدل بعد ذلك عندما يظهر خير الدين باشا الذي ظهر في القرن التاسع عشر والذي يرى ان السبيل الوحيد للتغيير يكمن في الإصلاح الدستوري والإداري، ويؤكد للباهي أن طريق السلاح والدم مهما كان عدالة قضيته مرفوض.


تتداخل الشخصيات الثلاثة بعد ذلك في جدالها مع بعضها البعض ومع الباهي المواطن التونسي المعاصر، الذي يشعر بالدوران وهو لا يعرف كيف يجيبهم عندما يسألونه: أين ثورتكم؟، وبعد حوار ونقاش حاد وطويل يتوصل الجميع إلى أن الجميع يحبون الوطن وأن السبيل الوحيد للخلاص يكمن في الوحدة، هذه الوحدة التي قد تجلب النور وترشد الناس نحو ثورة مكتملة تنتج مستقبلاً منيراً وحياة كريمة لكل المواطنين.


على الرغم من تقليدية الفكرة التي قُدمت كثيراً من قبل على خشبات المسارح العربية وفي الدراما التلفزيونية والسينمائية وكذلك في الإنتاج الأدبي، حيث استدعاء التاريخ في مواطن القوة والحضارة كي نقيمه ونقارن بينه وبين عصرنا الراهن في محاولة لوصل الماضي بالحاضر، إلا أن مؤلف النص بوكثير دومة والمخرجة دليلة مفتاحي قدماه في قالب عصري خفيف يستخدم سينوغرافيا تحمل الكثير من المتعة في طياتها، فنحن نشاهد أعمدة وخلفية صماء يتم تغيير الصور عليها عن طريق الفيديو بروجيكتور، حيث نراها في البداية وكأنها أبواب ونوافذ توصد في وجه المواطن التونسي المعاصر وبعد ذلك تتحول إلى أرفف مكتبات عملاقة لتوحي للمشاهد بأن الباهي قد حُبس داخل مكتبة عامة ضخمة.


استخدمت المخرجة أيضاً إضاءة خفيفة توحي بالعالم السحري الذي تدور فيه أحداث المسرحية، كما أن تجسيد شخصية الزاهي أمين المكتبة في شكل أشبه بالمهرج أعطى الإحساس بفكرة البهلوان الذي يضحك الناس لكنه يحمل داخله الكثير من الأسرار الموجعة والتي يقدمها لنا بشكل مضحك لكن هناك دمعة محبوسة في عينيه، وجاء تصميم الملابس للشخصيات الأخرى موفقاً حيث ارتدت شخصية المنوبية ملابساً تونسية تاريخية ذات بعد غرائبي، كما جاءت حركتها أيضاً أشبه بالشبح لتكمل الأجواء السحرية للحكاية.


كان أداء الممثلين جيداً، ولكن يحتاجون إلى التقليل من الحدة في الأداء خاصة شخصية الباهي الذي كان من الممكن أن يقدمها الممثل في رداء أقل صراخاً وعصبية، فنحن لا نحتاج إلى الصراخ المتصل كي ننقل الإحساس بالرعب والتوتر إلى المشاهدين، كذلك الأمر بالنسبة للممثلة التي أدت شخصية المنوبية، والذي كان أدائها تشنجياً في حين أنها تؤدي شخصية عالمة صوفية، فحتى لو كانت تؤدي دور شبحها فهي لا تحتاج إلى كل هذه الحركات العصبية المتشنجة.

المقال منشور في جريدة القاهرة في مايو 2019 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق