الجمعة، 1 فبراير 2019

"المعجنة" مسرحية تطرح سؤال الهوية بين الجد والهزل




السؤال الحرج الذي يواجه المصريون الآن وربما يحرجهم أيضاً، هل نحن شعب عظيم بما تفرضه الحضارة الفرعونية التي تعد أم الحضارات القديمة وأول شعاع مدنية شهدته الأرض، أم نحن ننتمي إلى دولة غارقة في الأزمات الاقتصادية، وشعبها يفتقد إلى الكثير كي يواكب العصر ويتقدم نحو المستقبل؟


هذا الطرح الذي يتأرجح بينه المصريون حيث عنجهية البعض بأننا أبناء أم الدنيا، ومحاولة البعض الآخر بالقفز على الحاضر والمطالبة بمستقبل باهر دون تكلفة دفع الثمن والذي هو بالتأكيد ثمن قاسي، هو ما يحاول الدكتور سامح مهران مؤلف مسرحية "المعجنة" مناقشته من خلال دراما مسرحيته، التي يستند فيها إلى تيمة "البخيل" لموليير، حيث الأب الغني الذي يعمل على تراكم ثروته في الوقت الذي تعاني أسرته من تقتيره عليهم ومعاملته القاسية لهم، وهو ما نلاحظه بشدة في الفصل الأول من المسرحية، فالأب عبده الذي يلعب دوره النجم المسرحي ناصر شاهين يمعن في قسوته على أفراد أسرته، وهم ابنته "حكاية" التي لعبت دورها أسماء عمرو، وابنه "مفتاح" الذي لعب دوره مروان عزب، وزوجته أو طليقته "إنشراح" التي لعبت دورها هايدي عبد الخالق.



يتراكم الصراع في الفصل الأول بين الأب وأفراد عائلته، حيث يعيش الابن والابنة حياة السخرة لوالدهما ويعملون لديه دون أي مكاسب مادية، فقط يحصلون على الطعام والسكن في منزله العتيق والكبير، بينما تراود كل واحد منهما أحلام الحب والزواج والاستقلال عن والدهما البخيل، في حين هربت أمهما من المنزل لتتزوج بآخر يتمتع بالكرم والحنان. يتصاعد الصراع حتى ينتهي الفصل الأول على زواج الأب من فتاة أحلام ابنه ويطرده وأخته التي ضبطها مع حبيبها من المنزل.


يفتقد الفصل الأول للتكثيف الدرامي الذي يوصل الفكرة بوضوح للمتلقي، ويجد المشاهد نفسه تائهاً بين حوارات مطولة وشجارات مفتعلة كثيرة، وغناء في غير محله، إضافة إلى مط لبعض المشاهد مثل مشهد اكتشاف الأب وابنه لعشيق "حكاية" في غرفتها، وبدلاً من أن ينتهي المشهد على هذه الصدمة نجد انفسنا غارقين في أغنية يصاحبها بعض الرقصات ويؤديها الثلاثي "الأب والابن والابنة"، هذا عدا وصلات الشجار المتصلة والطويلة بين زوجة الأب وطليقته التي تحاول استعادة المنزل لابنيهما، وهو ما لا يخدم الدراما وتواصل الجمهور مع خيوطها.


في الفصل الثاني، يتجاوز المؤلف هذه المشاكل الدرامية ويأخذنا مباشرة وبذكاء إلى الهدف الذي يسعى إليه من مسرحيته، فنشاهد الصراع بين الماضي والحاضر والمستقبل، حيث الأب الذي توفى فجأة يعود إلى عائلته التي تجتمع مع أحد المشايخ لاستحضار روحه حتى يدلهم على مكان ثروته، ولكن الأب يعود في زي فرعوني ويتحدث معهم عن أهمية البيت الذي يسكنونه ويبدأ في استدراج الابنة "حكاية" للماضي بتزيينه لها، فتذهب معه بينما تحاول أسرتها استعادتها إلى الحاضر، وذلك من خلال حوار رشيق ومؤثر.

يستخدم سامح مهران أسلوب الاسقاط على الأحداث المعاصرة، فنجده مثلاً يشير إلى تهاون المصريين في حقوقهم على مدار عقود طويلة حتى وصلوا إلى مرحلة الانفجار أثناء ثورة يناير 2011 ما أفقدهم كل شئ واستيقظوا مصدومين على واقع اختياراتهم الخاطئة، من خلال مونولوج طويل للزوجة أوالأم "انشراح" وهي تحاول إثناء ابنتها عن المغادرة للماضي مع روح الفرعون "الأب" التي ظهرت لهم، وذلك دون أن تذكر أي شئ بشكل صريح.


نفس الشئ نلاحظه في رقصة "الابنة" حكاية مع فرعون وهي تتحدث عن احتياجاتها الطبيعية كفتاة ترغب فقط في عريس وفستان أبيض، وذلك للاسقاط على المطالب العادلة للحياة التي يتوق إليها المصريون ويرغبون في تحقيقها بأي طريقة ودون أي تخطيط أو عمل ممنهج.


المخرج أحمد رجب استطاع أن يدير خشبة مسرحه بذكاء، فهو يلعب بفضاء المسرح من خلال الممثلين ومجاميع الكومبارس والراقصين، بحيث تنشغل عين المشاهد بالحركة التي تملأ فراغ الخشبة، بينما نجده يستخدم إمكانيات المسرح القومي بذكاء، فنجد روح الأب أو الفرعون تخرج لنا من أسفل من خلال مصعد داخلي، كما يدير الجدل القائم بين جميع أفراد المسرحية عند تحضير روح الأب، بتكوين تابلوهات منفصلة من الممثلين وبذلك نشاهد ثلاث حوارات على جانبي ومنتصف خشبة المسرح بينما نسمع الحوار القائم بين الأخ والأخت فقط. هذا إضافة إلى استخدامه للمؤثرات الضوئية للمزج بين الحاضر والمستقبل في التابلوه الغنائي الذي يحكي فيه الفرعون "الأب" عن قيمة البيت الذي يعيشون فيه، فنرى على جدران البيت فيلما لمصر القديمة وقيمتها كبلد تاريخي عتيق مع تعجب الأبناء وعدم مبالاتهم، فهم يرغبون فقط في المال.


جاء اختيار المخرج للفنانين الذين لعبوا بطولة المسرحية موفقاً أيضاً، حيث استطاع النجم ناصر شاهين أن يلعب دور الأب البخيل والفرعون بتميز ملحوظ، فمزج بين الجد والهزل والكراهية والتعاطف الذين تحتوي عليهم الشخصية ببراعة، وتميز بمرونة كبيرة على المسرح، فالشخصية تحتاج إلى مجهود بدني كبير وهو ما بذله شاهين بتلقائية ملحوظة لا تظاهر فيها، كذلك جاء غناؤه موفقاً، وبالطبع قدراته العالية على الأداء الكوميدي وهو ما يعد أمراً طبيعياً بالنسبة له.


كانت أسماء عمرو التي لعبت دور الابنة "حكاية" اكتشافاً مذهلاً بالنسبة لي، فهذه الفتاة المعجونة بالفن، تستدرج الدمع من عينيك وهي تمثل مشهداً تراجيدياً وتُغرقك في الضحك وهي تمثل مشهداً كوميدياً وتستحوذ على بصرك وهي ترقص برشاقة المحترفين. كذلك كانت هايدي عبد الخالق التي برعت في لعب دور السيدة الشعبية الممزقة بين ابنيها وحياتها مع زوجها وابنته التي هربت إليهما من عذاب زوجها الأول والذي أضاع ثلاثين عاماً من عمرها. كما جاء أداء محمد العزايزي لدور الشيخ مبهجاً فهو فنان كوميدي بالفطرة يزرع الابتسامة ببساطة ودون مجهود كبير.

أما الديكور والملابس والإضاءة فقد قام بها فارس واحد في "المعجنة" وهو صبحي السيد، الذي قدم ديكوراً ذكياً جداً فنجده يقسم خشبة المسرح إلى غرفة علوية يؤدي إليها سلمان أحدهما ثابت والآخر متحرك، كان مدعاة لتساؤلي حتى جاء مشهد هجوم جنود الفرعون على المنزل وخطفهم لحكاية للصعود بها إلى غرفة الأب والتي تحولت إلى مقبرة فرعون بعد ذلك، كذلك نجده قدم تكوينات داخلية لحائط المنزل مثل غرفتي نوم الابن والابنة والمطبخ والحمام على اليمين وباب المنزل  على يسار السلم، بينما هناك أريكة واحدة على يسار الخشبة، ليترك المقدمة فارغة وبالتالي يمكن تحريك بعض القطع المسرحية عليها بسلاسة ووفقاً لأحداث المسرحية. الملابس أيضاً تمتعت بالرشاقة والقدرة على التحول وفقاً للحدث وخاصة ملابس "حكاية" التي تحولت من شعبية إلى فرعونية ببعض الإكسسوارات البسيطة التي تم إضافتها أثناء الأحداث. كذلك ساعدت الإضاء بتنوعها وتدرجها من المبهر إلى الخافت على تعميق الحدث والإفصاح عن مضمونه بجداره.

"المعجنة" مسرحية تستحق المشاهدة، فهي مغامرة مسرحية يلعبها القائمون عليها باحتراف.


تم نشر المقال في جريدة القاهرة عدد 29 يناير 2019 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق