الخميس، 28 فبراير 2019

"الزائر" .. الكون كقرية صغيرة تواجه شبح العالم الافتراضي






في إطار الكوميديا الأخلاقية، يقدم خالد جلال مغامرته المسرحية الجديدة "الزائر"، والتي يتسع عالمها ليشمل الكون بأكمله وليس فقط المجتمع المحلي أو المجتمع العربي، فهو يرسم بناءً لمجتمع متعدد الثقافات والمشارب يعيش في قرية كونية، نشاهد فيها جنسيات متعددة عربية  وأفريقية وآسيوية ولاتينية، ويمزج في العلاقات العائلية، فتجد الصيني إبناً للمصري، والأندونيسي ابناً للشامي والهندية ابنة للأفريقية، وهكذا تختلط الأعراق على خشبة مسرح خالد جلال، فتزهو بألوان الملابس الشعوبية المتعددة في تعبير واضح عن الفكرة التي تدور حولها المسرحية.


المدهش أن خالد جلال يخالف التوقعات التي تنتاب الجمهور بعد أن يرى المشاهد الافتتاحية، فنحن نعتقد في البداية أن الحكاية ستدور حول علاقات المجتمعات المختلفة وما يسببه الاختلاف في العقائد والثقافات من صراع بين البشر، فكل ما يدور على الخشبة يوحي بذلك حتى الخلفية والتي اكتست بصور وتشكيلات تعبر عن شكل القرية التي تدور فيها الأحداث والتي جمعت بين أشهر المعالم السياحية لجميع أنحاء العالم بينها مصر مستخدماً تقنيات الـ 3D Mapping، والتي أضفت الكثير من الواقعية على الأحداث وغمرت المشاهد داخلها، وربما ساعدها في ذلك اتساع مساحة مسرح "المنارة" بالقاهرة الجديدة سواء عرضياً أو في أعماقه. لكننا نجد الحكاية تأخذنا في منحىً مختلفاً تماماً، حيث الفتى الغائب من سنين عن قريته وتصر أمه العجوز أن لا تعقد قران حفيدتها إلا في حضور خالها، ووسط إحباط الجميع لقناعتهم بأن هذا الخال الغائب منذ سنين طويلة لن يعود، تأتي المفاجأة ويعود بعد خطاب ينبئ باقتراب قدومه.
يعود الابن الغائب مرتدياً ملابس أوروبية حديثة ومختلفة عن القرية ويحمل معه جهازاً جديداً يقلب به حياتهم رأساً على عقب، فهذه القرية التي حافظت على تراثها وثقافتها وصلات أهلها ببعضها البعض رغم اختلافهم، تمسك بين يديها جهاز "الهاتف الذكي" أو الـ smart phone  لينشغلوا به عن عالمهم وتبدأ حالة الفردانية تنتابهم جميعاً، حيث يصيبهم مرض العصر وهو الانعزال عن الحياة الواقعية والانغماس في الحياة الافتراضية، ما يجعل الإنسان فرداً يعيش مع آلته ويعبر من خلالها عن كافة أحلامه وأحاسيسه ويفقد أهم صفاته الإنسانية ألا وهي أنه "حيوان اجتماعي"، فيمارس اجتماعياته افتراضياً ويضيع منه واقعه.


موضوع جاد وربما فلسفي أيضاً، فالفلاسفة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي يناقشون ويدرسون مسألة تشييئ الإنسان، أي تحوله إلى شئ بازدياد اعتماده على الآلة والتكنولوجيا واكتفائه بالحياة الافتراضية نتيجة لتوغل الشبكة العنكوبوتية في حياتنا وسيطرتها على كافة مقدراتنا، ما يجعلنا تدريجياً نتحول إلى أشياء متشابهة لا تميز فيها ولا اختلاف، وهو ما يقضي تماماً على الإبداع وتطور المجتمعات التي تقوم على الاختلاط والتفاعل بين أفراد البشر بشكل حقيقي وليس متخيلاً عبر الألياف الضوئية. هذا هو ما ما اهتم خالد جلال بتقديمه في إطار دراما مسرحية كوميدية واستعراضية أيضاً، فأنت لا تستطيع أن تغلق عينيك ولو للحظة أثناء مشاهدة "الزائر"، فخالد الذي لا يتوقف عن تحدي نفسه، يمتلك القدرة على تقديم طبخة مسرحية شديدة اللذة، فتجد نفسك تتحول ببصرك من بقعة لأخرى على خشبة المسرح لتشاهد أحداثاً مختلفة تسلم بعضها بعضاً وكأنك تشاهد فيلماً سينمائياً، هذا غير الاستعراضات الغنائية الراقصة التي تحتوي على كثير من الفرجة المسرحية المبهجة، والتي يبرع خالد جلال في تكوينها بشكل يميزه على الساحة العربية وربما يعد الوحيد عربياً الذي يمتلك الرؤية المسرحية الاستعراضية والقدرة على تحريك الممثلين بشكل يشغل المساحة المسرحية كاملة دون إفراط أو تقتير، فهو يمتلك ميزاناً حساساً لحساب كل خطوة على الخشبة بما يعطي جمالاً متفرداً لا تخطؤه العين أبداً.

لم يستخدم جلال في الزائر ممثلين مصريين لتأدية أدوار الجنسيات الأخرى، فلقد شاهدنا ممثلين من أفريقيا وأندونيسيا ونيبال والسعودية وسوريا ولبنان وشاهدنا ملابس تعبر عن ثقافات كل هذه البلدان، واحتوى الحوار على لغات هذه البلدان أيضاً بشكل لم يمثل أي عائق في الفهم، فلقد كنا نسمع جملة حوارية باللغة الأندونيسية مثلاً ويأتي الرد عليها بالعربية المصرية، كما سمعنا حواراً باللهجات العربية الشامية والخليجية، ما شكل تنوعاً أضفى حيوية كبيرة للمسرحية، وهنا يجب الإشارة إلى الوعي الكبير لدى خالد جلال بانتماء مصر إلى القوميتين العربية والأفريقية وكذلك أهمية البعد الآسيوي بالنسبة لكياننا السياسي في المنطقة، فمصر هي قلب العالم القديم ولا تستعيد أهميتها وثقلها إلا بإدراكنا لأهمية اتصالها بقارتي أفريقيا وآسيا وليس فقط بأوروبا التي هيمنت ثقافتها على وعينا لأكثر من قرن من الزمان.


يبقى أن أشير إلى أهمية اختيار مسرح المنارة في القاهرى الجديدة كمكان لعرض "الزائر"، فرغم بعده عن منطقة "وسط البلد" التي اعتاد الجميع على متابعة المسرح في محيطها، إلا أنه يعد بداية لتحريك الإنتاج الفني في جميع أنحاء القاهرة بمدنها الجديدة، ومما لا شك فيه، أن وجود أعمال فنية في مسارح المدن الجديدة سيساعد على تنويع الجمهور وإتاحة فرصة مشاهدة العروض الفنية لقطاع أكبر من الجمهور الذي يصعب عليه التحرك إلى أحياء القاهرة التقليدية القديمة، ولذلك أتمنى ان لا تكون "الزائر" هي المسرحية الوحيدة التي تُعرض على مسرح المنارة وأن يكون هناك إنتاجاً مسرحياً آخر على هذه الخشبة المسرحية الجديدة.

المقال منشور في جريدة القاهرة بتاريخ 26 فبراير 2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق