الأربعاء، 27 نوفمبر 2019

"اهتزاز" محاولة مبتسرة لتقديم نص عبثي




هناك نصوص مسرحية ينقذها العناصر الفنية المحيطة بها على خشبة المسرح، فإذا انتزعت النص من السياق العام أو الصورة الأخيرة التي ظهرت على الخشبة، تكتشف أنه لا توجد فكرة حقيقية أو على الأقل تصور ناضج للفكرة، وهذه الحالة جسدتها مسرحية "اهتزاز" للكاتبة المسرحية رشا فلتس، التي قدمت نصاً عبثياً غير ناضج في تكوينه الدرامي، عن امرأتين، تعاني واحدة منهما من خلل نفسي كبير وتعيش طوال الوقت تحت تأثير الأدوية النفسية، فهي تعاني من الأرق الدائم والتشتت الذهني والاكتئاب وربما الاضطراب ثنائي القطب. وفي الوقت الذي استعد ذهني لمشاهدة عرضاً عبثياً يغوص في أعماق تفاصيل حياة الشخصية المريضة نفسياً، والذي قدمته رشا بشكل واضح في بداية المسرحية، حيث صراع شخصية الكاتبة مع الوقت الذي يضيع في الخوف والقلق وعدم استيعاب الزمن ومطاردة أشباح غير واضحة، تشرذمت الفكرة بمجرد دخول صديقتها التي تعاني كما هو واضح من اضطرابات لها علاقة بالمواجهات الحياتية اليومية وتواجه شعورها بالملل والضياع بأن تسهر وتتعاطى المخدرات وتقيم علاقات جنسية مع الرجال، وبالتالي نزعتنا رشا فلتس من السياق الدرامي الأول إلى سياق آخر لا علاقة له بمفهوم المرض النفسي وحياة المريض، ولكن مجرد نقاش سطحي لطبيعة العلاقات الجنسية وكيف يتلاعب الرجل بمشاعر المرأة وكيف يمكنه أن يعبث بقلب صديقتين مقربتين فتقررا التخلص منه!
وهنا يأتي التساؤل؛ هل نناقش أزمة المرضى النفسيين في التعامل مع الآخرين ومع أنفسهم في مواجهة حياتهم اليومية؟ أم نناقش قصة فتاتين يؤرقهما سؤال الرجل والجنس؟ كما أننا نتعامل مع مجرد حوار أشبه بالثرثرة بين الشخصيات الثلاثة (امرأتين ورجل) دون أحداث يمكن الإشارة إليها، وإن كان ليس من الضروري أن يكون لدينا حدث متصاعد في العمل الدرامي، ولكن على الأقل يجب أن يكون لدينا حدث نتعامل معه.


رغم ضعف النص وتفككه، إلا أنك لن تشعر بالملل وأنت تشاهد المسرحية، فلقد تمكن المخرج حسن الوزير بمصاحبة مهندس الديكور فادي فوكيه ومصمم الإضاءة إبراهيم الفو والكريوجرافر مناضل عنتر من خلق متعة حركية وبصرية، فيمكنني مثلاً أن أقول بكل ثقة أن الديكور الذي أبدعه فوكية، هو الذي أكسب المسرحية الحس الدرامي المفتقد في سطور النص نفسه، فلقد وضع باباً على يسار المسرح أشبه بالباب السحري أو باب عالم الضلالات الذهنية، فأنت تراه ولكنه بالفعل غير موجود عدا في ذهن شخصية الكاتبة، فهو الذي يمثل لها نافذة الهروب ونافذة الأوهام أيضاً، حيث تهاجمها شخوصها الخيالية وتمنعها من الخروج لمواجهة الحياة الحقيقية، كما استخدم مجسما لشكل الرأس ويظهر منها تلافيف المخ خلف الستائر المجسدة لجدار الحجرة، وعند ذكر البطلة لكلمة "الوقت" والتي تكررت كثيراً في النص دلالة على صراع الشخصية مع الزمن، يتحرك مجسم الرأس يمنياً ويساراً مثل بندول الساعة ونسمع دقاتها. لم يستخدم فادي فوكيه أيضاً أي قطع ديكور سوى مكتب ومقعدين متحركين على عجل ومربوطين بالحبال، إسقاطاً على حالة المريضة المقيدة على مقعدها بقيد وهمي فلا تبرحه في مواجهة الحياة والانخراط في أحداثها.
جاءت الإضاءة أيضاً فاعلة بقوة في المسرحية، فلقد تضامنت مع الديكور بشكل حيوي أبرز الحدث الدرامي بقوة وأضفى على النص الباهت ملامحاً واضحة منحت المشاهدين الإحساس بأن هناك شئ يحدث على خشبة المسرح. ولا يمكن إغفال تصميم الأزياء الموفق لمروة عودة التي أصلت لغموض وغرائبية الشخصيات بالملابس التي صممتها، خاصة ملابس شخصية الكاتبة التي ترتدي روباً كئيباً طوال الأحداث، لتنزعه عنها في مشاهد أشبه بالخيال الذي يدور في رأس شخصية الكاتبة لتظهر بشكل أكثر انطلاقاً وجرأة في الحياة.
أما مناضل عنتر فلقد رسم أكثر من لوحة حركية معبرة، ونلاحظ مجهوده أيضاً في تدريب ممثلين وليس براقصين على أداءات تعبيرية صعبة بالجسد، فلقد وفق بشكل كبير في أن يختار حركات تعمق الحدث الدرامي السطحي في الأساس، وتأخذ المشاهد في رحلة استمتاع ولو قصيرة قبل أن يعود إلى ثرثرة النص المراهقة.
رغم أنه من المفترض أننا نشاهد مسرحية عبثية نفسية، إلا أن أداء الممثلين جاء باهتاً وموحياً بأننا نشاهد مشهداً درامياً بين ثلاثة مراهقين لم يتجاوزوا العشرين، وإن كانت دنيا النشار قد بذلت مجهوداً يستحق الإشادة في تجسيد شخصية الكاتبة التي تعاني من القلق والأمراض النفسية، أما إيمان إمام فجاء تجسيدها لدور صديقة الكاتبة عادياً بينما لم يكن الفنان شادي سرور في لياقته الأدائية المعروفة.
لا يمكنني إنكار حاجة المسرح المصري لتنوع موضوعاته المسرحية، بل أجزم أننا في احتياج حقيقي لدراما مسرحية نفسية، حيث أن هذا اللون العبثي النفسي غائب عن خشبات مسارحنا منذ فترة طويلة، ولكني كنت أتمنى أن يكون النص أكثر نضوجاً وتركيزاً على هذا المحتوى ولا يأخذنا في سياقات الاستسهال بمناقشة العلاقات بين النوعين وجدل المتعة الجنسية وإن كان هذا غير مرفوض أيضاً ولكن يحتاج لأن يكون أكثر عمقاً في التناول.

المقال منشور بجريدة القاهرة في 26 نوفمبر 2019 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق