الثلاثاء، 23 يوليو 2019

"كارمن" ريم حجاب .. تجربة مسرحية كادت تكتمل لولا الوقوع في أسر التكرار







لطالما مثلت رواية "كارمن" التي ألفها بروسبير ميريميه الفرنسي وخرجت في أول إنتاج فني لها على شكل أوبرا ألف موسيقاها الموسيقار الفرنسي الشهير جورج بيزيه، مصدر إلهام للكثير من المبدعين على مدار قرن ويزيد منذ إنتاجها الأول عام 1875م، لما تجسده شخصية كارمن من روح إبداعية حرة تكسر القوالب الاجتماعية وتحدث انقلاباً في موازين الحب داخل إطار العادات والتقاليد وتدفع حياتها ثمن تمردها، في وقت كانت المرأة فيه تعيش مقولبة في رداء من العفة المتشنجة التي تحبس روحها وتسجن انطلاقها.
لا يمكن بأي حال من الأحوال، إنكار أن "كارمن" ألهمت الكثيرين في مسيرة تحرير المرأة وحصولها على حقوقها المساوية للرجل في العالم كله على اختلاف ثقافاته، فخرجت في عدة أثواب درامية تقدم تضحيات المرأة أو دفعها لأثمان مختلفة نظير انطلاقها في الحياة وفقاً لما تؤمن به أو ترغب في تحقيقه لنفسها، فهي دائماً ما تدفع حياتها مقابلاً لحريتها، سواء كانت حياتها الفيزيقية أو حياتها الميتافيزيقية.
يشهد مسرح الهناجر الآن رؤية جديدة لكارمن، تقدمها ريم سيد حجاب، حيث تعمل مع مجموعة من شباب الفنانين بصيغة الورشة "على ما اظن" وهو الملاحظ في المنتج المُقدم على خشبة المسرح، وتلعب هي أدوار الدراماتورج والإخراج والكريوجراف، ما يجعل المسرحية رؤية خالصة لريم.
تعمل ريم على تقديم مضمون درامي سبق وقُدم من قبل في أشكال درامية مختلفة، ربما كانت مونودراما سما إبراهيم "أنا كارمن" والتي حصلت بها على العديد من الجوائز في مصر والبلاد العربية، أحدثها على الأقل بالنسبة لما وعيت عليه، وهو المضمون الذي يلعب على أن جميع النساء مهما اختلفت هوياتهن ومشاربهن، هن كارمن في النهاية، لكن ريم تقول أن جميع الرجال أيضاً، صوراً متشابهة من دون خوسيه الضابط الذي تخلى عن كل شئ من أجل عشقه لكارمن، لتتخلى عنه في النهاية من أجل مصارع الثيران القوي الغني، فيقتلها في النهاية.
من أجل أن تقدم ريم هذا المضمون الدرامي قامت بتشظية كارمن ودون خوسيه، فلم نشاهد ممثلة واحدة أو ممثل واحد يلعب أياً من الدورين، بل شاهدنا جميع المؤدين بالمسرحية يلعبون كل الأدوار وليس دوري كارمن ودون خوسيه فقط. لم يتوقف الأمر على تتابع الممثلين على المشاهد المختلفة، بل شاهدنا الجملة الحوارية الواحدة يتم تكراراها تباعاً بين عدد من الممثلات والممثلين، أو أن يكمل الممثلون والممثلات الجمل الحوارية الخاصة بشخصيتي كارمن ودون خوسيه في المشهد الواحد. ربما نجحت ريم من خلال هذا التعدد الصوتي للشخصيات أن تشغل فضاء مسرحها بالكامل وترسم صوراً مسرحية متميزة تشد الانتباه ولو لحين، لكن ببساطة شديدة أوقعتها اللعبة في شرك التطويل الذي أصاب الكثير بالملل والتشتت وعدم القدرة على المتابعة بل والتثاؤب أحياناً، حيث اقترب زمن المسرحية من الساعتين.
نجحت ريهام زهرة في رؤيتها التصميمية للملابس فقاربت الكمال ونجحت في نقل الأجواء الغجرية للقرن التاسع العشر، كما نجح سعد ممدوح في تأليف موسيقى العرض وإن كان استعان بجمل موسيقية كاملة من أوبرا كارمن لجورج بيزيه، إضافة إلى رقصة كاملة بين "الكارمنات والخوسيهات" على آريا "لا مور" الشهيرة التي عشقناها بصوت ماريا كالاس.
استطاعت ريم حجاب أن تقدم كريوجراف مميز ولافت للمسرحية ظهر في صور راقصة معبرة وقوية، وإن كانت وقعت في غرام بعض الموتيفات فأخذت تعيد وتكرر فيها، ما ساهم بشدة في تأصيل الإحساس بالملل الذي بعثه "تشظي الشخصيات" الذي أشرت له من قبل، كما أنها فيما يبدو، وأثناء ورشتها التي أخرجت هذا العمل الفني، اهتمت بالأداء الحركي على الأداء التمثيلي، فلم يكن هناك واحد من الممثلات والممثلين الذين شاركوا بالعمل، يمكن الإشارة إليه باعتباره مشروع لممثل واعد، فلقد خرج الأداء التمثيلي باهت ولا يدعو لأي تفاعل مع الأحداث الدرامية. كان ذلك على عكس الأداء الحركي الذي خرج منضبطاً ومميزاً.
خرج ديكور مسرحية "كارمن" من إنتاج مركز الهناجر متفرداً في بساطته السيميترية، فلقد اعتمد مهندس الديكور محمد العبد على القوائم المعدنية التي يمكن تفكيكها وتحريكها بسهولة وبالتالي يتم بناء وهدم الغرف بواسطة الممثلين أثناء المشاهد ودون الحاجة إلى التوقف واستخدام تقنية الإظلام للانتقال من مشهد لآخر، هذا بالإضافة إلى تقسيم خشبة المسرح إلى عدة مستويات، بإمكانها أن تقدم لنا مشاهد متوازية أو رؤى متعددة للمشهد الواحد.
لا يمكن اعتبار رؤية  "كارمن" لريم سيد حجاب سوى تجربة جيدة، كان بإمكانها أن تكون متميزة جداً، فقط لو لم تقع فريسة التطويل والذي أعتقد أنه؛ بإمكان ريم أن تعيد النظر فيه حتى ولو كانت المسرحية قد خرجت للمشاهدين، فخسارة كبيرة أن يضيع كل هذا المجهود المميز من أجل الإصرار على تكرار موتيفات حركية أو تقديم فكرة تشظي الشخصيات بشكل مبالغ فيه.

المقال منشور في جريدة القاهرة يوليو 2019 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق